ذات يوم سمع احد الخلفاء العباسيين انه يوجد في دولة من دول الخلافة، قاضى عادل أقر العدل بذكائه وفطنته وقوة ملاحظته ،ولذلك فهو يستطيع أن يميز الحقيقة ويتعرف الجاني والمجني عليه حتى لو كانت الحقيقة خافية أو كان احد الخصمين يملك حجة اقوى من الاخر وقد شوق ذلك الخليفة، فقرر أن يذهب إلى ذلك القاضي حتى يتحقق بنفسه من صحة ما يشاع عن عدله وذكائه.
وهناك قال الخليفة للرجل الكسيح لقد وصلنا إلى السوق فانزل عن جوادي حتى أُواصل سيري فنظر إليه الرجل مستنكرا وقال: انا انزل عن جوادي واتركه لك محال محال ،فقال الخليفة ماذا تقول يا رجل هل هذا جزاء احساني إليك ،هيا انزل عن جوادي ،فصاح الرجل الكسيح باعلى صوته ليسمع الناس أنا صاحب الجواد اشهدوا يا ناس هذا الرجل يريد ان يستغل ضعفي ليسرق جوادي وتجمع الناس حولهما وبدأوا في لوم الخليفة،الذي بدا من وجهة نظرهم لص يحاول أن يستغل قوته ضد ذلك المسكين ليسرق جواده.
وحاول الخليفة أن يفهمهم و إقناعهم انه صاحب الجواد ويقسم لهم باغلظ الايمان أن الجواد جواده، فسخر منه احدهم قائلا كل اللصوص يقسمون مثلك هكذا وفي النهاية، يثبت أنهم لصوص ،وبرغم ذلك تمالك الخليفة نفس، فتدخل أحدهم واقترح الذهاب إلى القاضي للفصل في النزاع.هو وحده الذي يستطيع الفصل في هذه القضية ،وتحديد صاحب الجواد الحقيقي. فقال الخليفة أنا موافق على الذهاب الى القاضي دلوني عليه وقال الكسيح في تبجح وأنا ساذهب إليه ليعيد لي جوادي الذي يحاول ذلك الرجل سرقته مني، قاد الخليفه الجواد والكسيح راكب خلفه.
وعند نهاية السوق شاهد الخليفة بائع سمن يقبض على يد احد الزبائن ويد الزبون مليئة بالنقود وهو يصرخ متالما وقد تجمع حولهما الناس، اه اترك يدي إنك تؤلمني فيرد عليه السمان معنفا لن اترك يدك ايها اللص حتى تعيد إلي نقودي فيصرخ الزبون متالما بل هي نقودي لن اترك يدك حتى تعيدها الي او اكسرها فقال الخليفة لسمان لماذا تقبض على يده هكذا ايها السمان، فقال السمان لقد جاء هذا الرجل ليشتري مني سمنا فملأت له ذلك الابريق ثم طلب مني أن افك له قطعة ذهبية من ذات العشرة دنانير فافرغ كيس نقودي لاعد له الباقي فخطف نقودي واراد الهرب بها لكنني امسكت بيده فقال الزبون لا تصدقوه بل انا الذي اخرجت كيس نقودي وافرغت في يدي لادفع له ثمن السمن فامسك بيدي محاولا سرقه نقودي فتعجب الحاضرون وقال احدهم لا ندري من منكما الظالم ومن المظلوم وقال اخر من الافضل ان تذهبا الى القاضي هارون ليحكم بينكما في هذه القضية المحيرة ،وقال الخليفة نحن ذاهبان إلى القاضي تعالا معنا وسار الاربعة قاصدين ديوان القاضي العادل فدخلوا الى الفناء حيث ينتظر المتخاصمون دورهم للدخول على القاضي .
وكانت هناك قضايا أخرى تنتظر البت عند القاضي، كان هناك عالم وفلاح يتنازعان على جارية، وسمان وزبون يختلفان حول نقود. فتعجب الخليفة في نفسه وقال هذه ثلاث قضايا معقدة كل منهما اصعب من الاخريين ترى كيف سيتمكن ذلك القاضي المسكين من الفصل فيها وهل حقا سيقضي فيها بالعدل كما يشاع عنه في انحاء دولة الخلافه.
وفي هذه اللحظة ظهر الحاجب من ديوان القاضي مطلا على الفناء ونادى قائلا كل من له شكوى او مظلمة فليتقدم إلى ديوان القاضي فسارع العالم والفلاح بالدخول الى ديوان القاضي ومعهما الجارية ثم تبعهم السمان قابض على يد الزبون والنقود فيها وأخيرا دخل الخليفة والشحاذ الكسيح نظر القاضي إلى السمان في دهشة قائلا لماذا تقبض على يد ذلك الرجل هكذا .فحكى له السمان قصته كما حكاها للخليفه من قبل وحاول الزبون الاعتراض فطلب منه القاضي أن يسكت حتى يطلب منه الكلام فلما انتهى السمان من قصته ساله القاضي قائلا هل لديك شهود على صدق ما تدعي، فقال السمان وهل بعد أن امسكت به متلبسا بالسرقة احتاج شهودا ،وهنا طلب القاضي من الزبون ان يحكي حكايته فحكاه له كما سمعها منه الخليفه من قبل فساله القاضي قائلا :هل لديك شهود على صدق ما تقول فقال الزبون نقودي في يدي واحضر شهودا، فاين العدل اذن.
فقال القاضي اذن اترك النقود عندي ومر علي غدا لافصل بينكما واعرف من الظالم ومن المظلوم فترك السمان والزبون النقود على منضده القاضي وانصرفا. ونظر القاضي الى العالم والفلاح والجارية،وقال وأنتم ما هي قضيتكم فقال العالِم هذه الجارية اشتريتها بحر مالي منذ عام تقريبا لتخدمني أنا وزوجتي، واليوم جاء هذا الفلاح ليزعم أن الجارية جاريته وانها هربت منه بالامس فقط. فقال القاضي هل معك السك الذي اشتريت به الجارية من سوق الرقيق. فقال العالم لم اشتريها من تاجر بسوق رقيق بل اشتريتها من عابر سبيل ،ولم يعطني سك فقال القاضي هل لديك من يشهد ان الجاريه جاريتك ،فقال العالِم زوجتي تشهد بذلك فقال القاضي شهاده زوجتك لا تصلح لانها ستشهد لصالحك .ثم توجه إلى الفلاح قائلا ،وانت ايها الفلاح هل لديك سك يثبت ان هذه الجارية ملكك فقال الفلاح بل اشتريتها من عابر سبيل ولم يعطني سك، فقال القاضي هل لديك شهود يشهدون أن هذه الجارية ملكك فقال الفلاح اسال الجارية، فقال القاضي شهاده الجارية لا تصح لانها ليست حره، وحتى لو صحت فنحن نحتاج إلى شاهدين وليس إلى شاهد واحد، ولما لم يبدي اي من العالِم أو الفلاح استعداده لاحضار شهود ،طلب منهما القاضي ان يترك الجارية ويعود غدا ليفصل بينهما ويعرف من صاحب الجارية, ومن المدعي كذبا فترك العالِم والفلاح الجاريه وانصرف.
وهنا نظر القاضي إلى الخليفة والشحاذ الكسيح وقال وانتما ما هي قضيتكم ،فحكى الخليفه قصته كما حدثت، وكيف قابل الكسيح واحسن إليه ثم اشفق عليه ،وحمله على جواده لكنه تشبث بالجواد ولم يشا النزول عنه مدعيا انه جواده .فلما انتهى الخليفه من سرد ما حدث توجه القاضي إلى الكسيح قائلا .وأنت، ما هو ردك على الكلام الذي يقوله ذلك المسافر ،فكذّب الكسيح كل ما قاله الخليفه واتهمه باستغلال قوته ليستولي على جواد رجل ضعيف، فقال القاضي عموما اتركا لي الجواد وعودا غدا حتى افصل في قضيتكم، واعرف من صاحب الجواد الحقيقي ومن اللص .
في اليوم التالي، حضر الجميع إلى ديوان القاضي. ليحكم بين السمان والزبون، والعالِم والفلاح والخليفة والكسيح .فقال القاضي للسمان خذ نقودك ايها السمان وعُد سالما ،واشار إلى الزبون قائلا للحراس اما ذلك اللص المحتال فاجلدوه 30 جلده، وإن عاد لمحاولة السرقة مره اخرى أمرت بحبسه ثم قال للعالِم خذ جاريتك ايها العالِم وعد لبيتك سالما اما ذلك الفلاح المحتال فاجلدوه 50 جلده، وإن عاد لمثلها وضعته في السجن وغرمت. اقتاد الحراس الزبون والفلاح لجلده في الفناء اما القاضي، فقد نظر إلى الخليفة قائلا هل تستطيع ان تتعرف جوادك من بين 20 جوادا ايها التاجر ،فقال الخليفة نعم وقال الكسيح وانا ايضا استطيع ان اميِّز جوادي من بين الف جواد.
فقام القاضي من مكانه قائلا تعال يا معي وغادر القاضي الديوان وخلفه الخليفة والكسيح حتى وصل الى باب اسطبل فيه اكثر من 20 جوادا، فقال القاضي للكسيح انتظر هنا حتى اناديك ،وادخٓل الخليفة إلى الاسطبل قائلا ادخل وتعرف جوادك فدخل الخليفة إلى الاسطبل وتوجه إلى جواده مباشره قائلا ها هوذا جوادي ايها القاضي فطلب منه القاضي ان ينتظر بالخارج ثم ادخل الكسيح قائلا ادخل وتعرف على جوادك فتوجه الكسيح الى الجواد مباشره وقال ها هو ذا جوادي ايها القاضي الم اقل لك انني استطيع تمييزه من بين الف جواد. فابتسم القاضي ابتسامه تنم عن الرضا وأدرك شيئًا مختلفًا.
وتوجه إلى الخليفة قائلا خذ جوادك ايها التاجر ،اما ذلك المدعي فاجلدوه 40 جلده وإن عاد لمثلها فسجنوه. فتعجب الخليفه وقال للقاضي عجبا لك ايها القاضي كيف عرفت ان الجواد جوادي فقال القاضي بقوه الملاحظة فقال الخليفة كيف، فقال القاضي عندما دخلت الى الحظيره تعرفت الجواد كما تعرفه ذلك المدعي فقال الخليفه نعم وبرغم ذلك حكمت بالجواد لي وليس له ،وهذا ما يدهشني .فقال القاضي لم يكن هدفي ان يتعرف احدكما الجواد بل من منكما سوف يتعرف عليه الجواد فقال خليفة وكيف ذلك.
فقال القاضي عندما اقتربت انت من الجواد صهل ومسح عنقه فيك معبرا عن سعادته برؤيتك وعندما تقدم منه ذلك المدعي نفر منه ورفع قائمتيه مستعدا لمهاجمته مما يدل على إنك صاحبه. فقال الخليفة وكيف علمت ان السمان هو صاحب النقود ليس الزبون. فقال القاضي كان الامر ايسر مما تتصور لقد اعتمدت على التجربة ،احضرت كوب ماء ووضعت فيه النقود ليلا وعندما استيقظت في الصباح رايت طبقة من السمن طافيه على وجه الماء وبما ان السمان يعمل في السمن فلا بد ان تكون النقود ملوثه بالسن من يديه.
فازدادت دهشة الخليفه وقال هذه اروع من سابقتها. وكيف علمت ان العالِم هو صاحب الجاريه، وليس الفلاح فقال القاضي اعتمدت على الخبره وقوة الملاحظه فقال الخليفه وكيف فقال القاضي ناديت الجاريه في الصباح وطلبت منها ان تملا لي محبرتي وامرت زوجتي ان تراقبها من بعيد في اثناء اداء عملها فاخذت الجارية المحبره وغسلتها جيدا ثم جففتها ثم صبت فيها الحبره بسرعه ومهاره دون ان تسكب منه قطره واحده على الارض فاستنتج من ذلك انها متعوده على القيام بمثل هذا العمل ،وهذا يدل على انها ملازمه للعالم وليس للفلاح .
فقال الخليفة متهللا بالفرح نعم أنت يا من تستعمل ما وهبك الله من ذكاء وفطنه وخبره وقوة ملاحظة في اقرار العدل بين الناس وتعرف الظالم والمظلوم في غياب الادله والشهود. فقال القاضي في تواضع هذا توفيق من الله .
وهنا كشف الخليفة عن شخصيته الحقيقيه وقال انا خليفة هذه البلاد، وقد سمعت عن عدلك وذكائك وحكمتك الكثير والكثير فجئت لاتحقق من ذلك بنفسي ،وقد رايت اكثر مما سمعت فاطلب ما تشاء لاكافئك به .فقال القاضي اقرار العدل هو مكافاتي .
هكذا انتهت حكايتنا اليوم عن ذكاء القاضي ولغز الخليفة. نأمل أن تكون القصة قد نالت إعجابكم. لا تنسوا المشاركة مع اصدقائكم. دمتم في رعاية الله وحفظه.