قصة وحكمة: كل نصيحة ببعير

يحكى أن أحد الأشخاص، الذي واجهته صعوبات كبيرة في حياته، شعر باليأس من استمرار حياته في بلاده. ضاقت به سبل العيش، وتملكه الإحباط حتى أصبح غير قادر على التحمل. قرر أن يترك خلفه كل ما يعرفه ويبدأ رحلة جديدة في الأرض الواسعة.

ترك بيته وأهله وودع كل ما كان يربطه بماضيه، وبدأ رحلته الطويلة نحو الشرق. قطع مسافات شاسعة وعانى من مشقة السفر وصعوبات الطبيعة حتى وصل إلى منطقة شرقية في السعودية. في هذه المنطقة، قادته خطواته إلى بيت أحد الأجواد، حيث استضافه المضيف وأكرم وفادته بكل ما يستطيع.

قصة وحكمة: كل نصيحة ببعير

بعد مرور عدة أيام من الضيافة، تساءل المضيف عن هدف زائره وما الذي يبحث عنه. عندما أخبره الرجل بنواياه ورغبته في العمل والعيش في المكان، عرض عليه المضيف عرضاً مغرياً. قال له المضيف: "ما رأيك أن تعمل لديّ، وسأعطيك ما يرضيك؟" وبما أن الرجل كان بحاجة إلى مأوى ولقمة عيش، قبل العرض بسرور.

بدأ الرجل العمل لدى المضيف، حيث كانت مهامه متنوعة. أحياناً كان يرعى الإبل، وأحياناً أخرى كان يعمل في مضافة المضيف، يعدّ القهوة ويقدمها للضيوف. استمر على هذا الحال لعدة سنوات، وخلال هذه الفترة، كان الشيخ المكافئ له بين الحين والآخر ببعض الإبل والماشية تقديراً لجهوده وأمانته.

ومع مرور الزمن، بدأ الرجل يشعر بالحنين إلى بلاده وأسرته. كانت نفسه تتوق إلى العودة ورؤية أهله وأبنائه. لذا قرر أن يطلب من مضيفه الإذن بالعودة إلى وطنه. لقد حزِن المضيف لفراقه، لكنه قدر صدقه وأمانته، فقرر أن يكرمه بمزيد من العطاء. منحه العديد من المواشي وبعض الإبل، وتمنى له رحلة آمنة وعودة سالمة إلى أهله.

سار الرجل في الصحراء القاحلة، وبعد قطع مسافة طويلة من الرحلة الشاقة، رأى شيخاً جالساً على جانب الطريق. لم يكن للشيخ سوى خيمة بسيطة منصوبة بجانب الطريق، وقد كان المكان خالياً تماماً إلا من هذا الشيخ الذي بدا هادئاً ومطمئناً رغم حر الشمس وهجير الصحراء.

عندما اقترب الرجل من الشيخ، حيّاه وسأله عن سبب وجوده في هذا المكان النائي وتحت ظروف الطقس القاسية. أجاب الشيخ بهدوء: "أنا أعمل في التجارة". تفاجأ الرجل وسأله عن نوع تجارته وأين بضائعه. قال الشيخ: "أنا أبيع نصائح".

استغرب الرجل من الإجابة وسأل: "تبيع نصائح؟ وبكم النصيحة؟" أجاب الشيخ: "كل نصيحة تُباع بعير". كانت تكلفة النصيحة باهظة بالنسبة للرجل، لكنه قرر أن يشتري نصيحة واحدة على الأقل رغم ثمنها المرتفع.

قال الرجل للشيخ: "هات لي نصيحة، وسأعطيك بعيراً". بدأ الشيخ بإعطائه النصيحة الأولى: "إذا طلع سهيل، لا تأمَن للسيل". فكر الرجل في النصيحة، وأدرك أنها قد تكون مفيدة في حالات معينة، ولكنها لا تنطبق على وضعه الحالي في الصحراء البعيدة. لأنه لم يرَ فائدة واضحة لهذه النصيحة في الوقت الراهن، طلب نصيحة أخرى.

فقال الشيخ: "أبو عيون بُرْق وأسنان فُرْق، لا تأمن له". حاول الرجل فهم هذه النصيحة، ولكنه لم يجد لها تطبيقاً عملياً في الوضع الذي يواجهه. شعر بالإحباط لأنه لم يجد في النصائح ما ينقذه من مشقته، فقرر أن يطلب نصيحة ثالثة، حتى لو كان ذلك يعني أن يضحي بعيراً آخر.

أعطاه الشيخ النصيحة الثالثة: "نام على النَّدَم ولا تنام على الدم". لم تكن هذه النصيحة أفضل من سابقتها، ووجد الرجل أنها غير مفيدة في موقفه الحالي. قرر أن يتجاهل النصائح ويواصل رحلته، فأخذ مواشيه وسار في طريقه.

ظل يسير لعدة أيام، ناسيًا النصائح التي تلقاها من الشيخ بسبب التعب الشديد وحرارة الصحراء. وفي إحدى الليالي، بينما كان يسير عبر وادٍ عميق، شعر بالجوع والإرهاق وقرر أن يستريح. وبما أنه كان قد قرر أن يواصل السير دون أن ينفذ النصائح، فقد نسى المخاطر التي قد تواجهه.

وفي أحد الأيام، أدركه المساء فوصل إلى قوم قد نصبوا خيامهم ومضاربهم في قاع وادٍ كبير. فتعشّى عند أحدهم وباتَ عنده. وفي الليل، وبينما كان ساهراً يتأمل النجوم، شاهد نجم سهيل. وتذكر النصيحة التي قالها له الشيخ، فشعر بالذعر وقرر التحرك بسرعة.

أيقظ صاحب البيت وأخبره بتفاصيل النصيحة، وطلب منه أن يُخبر قومه بالخطر الذي يهددهم، ويحثهم على الخروج من قاع الوادي. لكن المضيف سخر منه ومن قلقه، قائلاً: "لقد اشتريت النصيحة ببعير ولن أنام في قاع هذا الوادي." فقرر الرجل أن يتبع النصيحة بنفسه ويأخذ احتياطات أمانه، فصعد إلى مكان مرتفع بجانب الوادي ونام هناك.

وفي أواخر الليل، بدأ السيل يهدر كالرعد ويجرف كل شيء في طريقه. اجتاح السيل الوادي، وابتلع الخيام والأشخاص، ولم يُبقِ سوى بعض المواشي. وعندما استيقظ الرجل، وجد نفسه في مأمن ونجا بفضل يقظته. جمع ما تبقى من المواشي التي نجا بها وأخذها معه.

واصل الرجل سيره عدة أيام، حتى وصل إلى بيت في الصحراء. استقبله صاحب البيت بحفاوة، وكان رجلاً نحيفاً خفيف الحركة. كلما زاد الترحيب، زاد قلق الرجل. وعندما نظر إلى المضيف، لاحظ أنه ذو "عيون برق وأسنان فرق"، وهو الوصف الذي أخبره الشيخ عنه. فتذكر تحذيرات الشيخ وقرر أن ينام خارج البيت، قرب مواشيه، ووضع حجارة تحت فراشه ليتظاهر بالنوم.

وفي منتصف الليل، بينما كان يراقب من مكان بعيد، اقترب المضيف منه بخفة وأخذ سيفه لينهال على ضيفه. لكن الرجل كان قد استعد لهذا الموقف، وقام بدفع المعتدي دفاعاً عن نفسه. وبعد أن قتل المعتدي، أخذ ماشيته وسار في الصحراء.

وبعد مسيرة عدة أيام، وصل في ساعات الليل إلى منطقة أهله. فترك ماشيته خارج الحي وسار نحو بيته. عند دخوله، رفع الرواق ودخل ليجد زوجته نائمة وبجانبها شاب طويل الشعر. أغتاظ الرجل بشدة وامتدت يده إلى حسامه، عازمًا على أن يهاجم الشاب وزوجته.

ولكن فجأة، تذكر النصيحة الثالثة التي أعطاها له الشيخ: "نام على الندم ولا تنام على الدم." فتوقف، وهدأت أعصابه. قرر أن يهدأ ويعطي نفسه فرصة للتفكير قبل اتخاذ أي إجراء متهور. فخرج من البيت، وذهب إلى حيث ترك أغنامه، ونام بجانبها حتى الصباح.

عند شروق الشمس، ساق الرجل أغنامه واقترب من البيت، حيث استقبله الناس بحرارة. عرفوه ورحبوا به، وأخبروه بأن ابنه قد كبر وأصبح شاباً ناضجاً. نظر الرجل إلى الشاب الذي كان بجانب زوجته فوجد أنه هو ابنه، وتأكد أنه لم يكن هناك ما يستدعي القلق. كان الشاب الذي رآه بجانب زوجته هو ابنه الذي نما وتطور خلال سنوات غيابه.

شعر الرجل بفرح وسعادة كبيرة، وشكر الله على سلامتهم. تذكر أن النصائح التي حصل عليها كانت أكثر قيمة من أي ثمن دفعه، لأنها أنقذته من ارتكاب جريمة كبيرة كان سيندم عليها طول حياته. أدرك أن النصيحة كانت أثمن من أي مكسب مادي، وأن تطبيقها في الوقت المناسب يمكن أن يحمي من الأخطاء الفادحة. وهكذا، تمنى الرجل أن يظل دائماً يقظاً ومصغياً لنصائح الحكماء، لأنه أدرك أن كل نصيحة يمكن أن تكون خيراً من أي ثمن يدفعه.

في ختام هذه القصة، تذكّر أن كل نصيحة حكيمة تستحق تقديرًا كبيرًا. لا تستخف أبداً بكلمات الحكماء، فقد تكون هذه النصائح هي المفتاح لتجنب المخاطر واتخاذ القرارات الصائبة. كما يقول المثل: "كل نصيحة ببعير"، فإن فهم وتطبيق النصائح الصحيحة يمكن أن يحميك ويقودك إلى النجاح، لذا استمع بعقل مفتوح وكن دائماً حذراً في تقييم ما يُقدّم لك من مشورات.

تعليقات